
أكد الفريق أول سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي وزير الدفاع، أن الدول العربية مطالبة بإحداث تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وهيكلية، للوصول إلى عالم عربي مغاير شكلاً ومضموناً ينعم في العام 2020 بالرخاء والاستقرار، ودعا سموه إلى الاستفادة من تجربة دولة الإمارات، والعمل بنهج المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان "طيب الله ثراه". جاء ذلك في كلمة سموه، التي افتتح بها أعمال المنتدى الاستراتيجي العربي، هذا نصها:
السيدات والسادة..
ينعقد هذا المنتدى في أول يوم يلي انقضاء فترة الحداد على فقيدنا الأعز الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، وإذ نستأنف نشاطنا الرسمي بلقاء هذا الجمع الكريم حول مستقبل العالم العربي، فإن الحاضر الأكبر بيننا هو منهج وفكر ومواقف الشيخ زايد، الذي سكنت العروبة قلبه وعقله، وجسدها في حياته سلوكاً وأخلاقاً والتزاماً وعطاء.
كان رحمه الله يتفاعل مع الأحداث العربية وكأنها تحدث في بيته، يفرح بكل إنجاز عربي مهما صغر، ويتألم لكل نازلة أينما وقعت، يسبق في محاضر الخير، وينفر من الشقاق والنفاق والصغائر، لطالما أشفقنا على قلبه من هذا الحب الجارف الذي أدمته أوضاع الأمة وأورثته القلق والحسرة والوجع.
لو سار نهج زايد في أمته كما سار في بلده، ولو سارت القيادات العربية على هذا النهج، لكان واقعنا العربي مختلفاً، ولكان طريقنا للعام ألفين وعشرين (2020) ممهداً ومعبداً، قد يقول بعضكم إن عاطفة الشيخ محمد قد غلبته وربما يبالغ في حديثه، لكن الذين يعرفون هذه المنطقة في الخمسينيات وما قبلها، يدركون أن توحيد سبع إمارات بحكامها وقبائلها وواقعها المرير وإرثها التاريخي في دولة دستورية، والسير بها إلى ما وصلت إليه اليوم، يجسد واحدة من أبرز عمليات التغيير والإصلاح في تاريخ المنطقة.
لقد حقق الشيخ زايد هذا الإنجاز الضخم بالحكم الصالح والشورى والإخلاص وتقديس العمل والتفاني في خدمة وطنه وشعبه والتركيز على التنمية في كل مجالاتها، والانفتاح على الحضارة الإنسانية بكل مكوناتها.
وكان الشيخ زايد صاحب رؤية للتغيير، وامتلك الإرادة لإحداث التغيير، وهذا بالضبط ما نحتاجه في العالم العربي، فنحن شطار في الحديث عن التغيير، لكن إرادة التغيير مرتعشة أو ضعيفة، ونحن نتحدث طوال عقود عن الوحدة والتعاون، لكن الحديث اليوم في بعض أرجاء عالمنا العربي ليس عن وحدة الأمة، بل عن منع تفتت بعض دولها.
ومنذ أن طرقت العولمة أبوابنا والحديث متواصل عن أخطارها وآثارها، وضرورة تعاون الدول العربية لمواجهة شرورها، ولكن أليس من الأولى أن تبدأ الدول العربية بنفسها وتضمن تعاون كل القوى الحية في مجتمعاتها ليكون لديها الأمل في الخروج من حال الجمود إلى حال الفاعلية ولكي يصير التعاون العربي ممكناً ومجدياً؟ والواقع أن العولمة لا تفرض على العرب فقط التعاون، بل على كافة أمم وشعوب العالم لمواجهة الفقر والأوبئة والاحتباس الحراري والإرهاب والتطرف والانقسام المعرفي.
إن كل المجموعات الجغرافية في العالم تبحث عن قواسم مشتركة، وقبل أيام ظهر تجمع دول أمريكا اللاتينية، فما بالنا في العالم العربي نبدد القواسم المشتركة ولا نتصرف حتى وفق منطق الجغرافيا؟!
لو ظل الشيخ زايد والشيخ راشد يتحدثان عن حلم الوحدة من دون نية صادقة وإرادة شجاعة، لما حدث التغيير والإصلاح والتقدم والتطور.
لا أقصد بحديثي هذا أن أقحم على منتداكم تجربة الإمارات، التي أعرف أنكم تعتزون بها، لكنها الوقائع تفرض نفسها، فكلما فكرت بموضوع هذا المنتدى جالت في خاطري صورة عالم عربي ينعم في العام 2020 بالرخاء والاستقرار، ولا شيء يبعث التفاؤل في نفسي أكثر من تجربتنا في دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد كان واقعنا قبل أربعين عاماً أكثر مرارة من الواقع العربي الراهن، وكما تمكنا من تغيير ذلك الواقع، وإنهاء تلك المرارة، فإن العالم العربي قادر على ذلك.
وأحب أن أشير هنا إلى أن الثروة التي وهبها الله للإمارات لم تكن العامل الحاسم في التغيير والإصلاح، فالثروة عادةً عامل تفريق بين الدول لا عامل توحيد، وعامل ركون إلى الراحة لا عامل نشاط، ولعلكم تعرفون أن عوائد النفط لا تمثل في الناتج المحلي الإجمالي للإمارات أكثر من 30% أما بالنسبة لدبي فهي لا تمثل أكثر من 7%.
وفي كل الأحوال، مفهوم الثروة واسع، فالماء ثروة، والأرض الزراعية ثروة، والتراث ثروة، والموارد البشرية ثروة لا تنضب، ونحن في عصر تبدلت فيه أهمية عناصر الثروة، وبات الإنسان والمعرفة والمعلومات أهم العناصر.
أقول هذا، لكي لا يتحجج أحد منا ونحن نتحدث عن العالم العربي سنة 2020 بشح الموارد أو ندرتها، فلا يخلو بلد عربي من مصادر للثروة، لكن المهم هو حسن إدارتها وتنميتها واستثمارها وتوظيفها لمصلحة الناس. وإن مركز الثقل في التنمية اليوم هو رأس المال البشري، ومركز الثقل في التقدم هو الحكم الصالح، ولن يفيد الهروب من مراكز الثقل إلى الهوامش والفرعيات، واستبدال العمل الحاسم بالدوران في حلقات النقاش البيزنطي، والاختلاف على جلد النمر قبل اصطياده، والبحث عن مؤامرة أو خطة شريرة خلف كل جديد، وكل ذلك من أجل تكريس الوضع القائم ومقاومة الإصلاح وتأجيل التغيير.
السيدات والسادة أعضاء المنتدى..
لا نسير في العالم العربي نحو العام 2020 منفردين، فنحن جزء من هذا العالم الذي حملنا له يوماً رسالة الهدى، هذا العالم بات أكثر ترابطاً وهو اليوم بمثابة سوق مفتوحة للسلع والأموال والاستثمارات والخدمات والمعلومات والثقافة والأفكار.
ومن هنا، فإن الكيفية التي نتفاعل بها مع هذا العالم الجديد، تؤثر على قدرتنا في حل مشاكلنا الراهنة، وتحقيق أهدافنا المرجوة في العام 2020، وأكثر ما يقلقني في هذا الترابط العالمي، هو المؤشرات المتزايدة على إمكانية نجاح مدرسة صراع الحضارات وتصنيفها على أسس عرقية ودينية، إذا استمرت هذه التصنيفات في سياقها الصاعد، فإنها ستذهب بعالمنا إلى نفق مظلم من العنف والعنف المضاد والصراعات التي لن تكون لها نهاية ولن يكون فيها رابح.
وأتوقف هنا أمام ما يتعرض له العالم الإسلامي، من سوء فهم حضاري وثقافي نتيجة محاولات خبيثة لإلباس الصراع على المصالح ثياب الصراع بين الأديان.
لقد تفهمنا الغضب الناجم عن أعمال إجرامية ومواقف وسلوكيات شاذة ارتكبها نفر قليل من أتباع ديننا، وشاركنا في الحملة الدولية على الإرهاب، لكننا نرفض وصم المسلمين كافةً بهذه الأعمال وتصويرهم بأبشع صور التخلف والهمجية، وتصوير الإسلام باعتباره نقيضاً للمدنية الحديثة والحضارة الغربية.
إن من أولى مهام القادة والمفكرين والفاعلين في الحياة العربية، وهم يتطلعون إلى العام 2020، التصدي للأفكار المنحرفة عن هدي ديننا الحنيف، وفضح كل الأفكار المتطرفة والتصدي للخبثاء الذين يحاولون دفع العالم إلى صراع الحضارات، فالإسلام هو دين الحوار والوحدة الإنسانية والمساواة بين البشر، وهو دين الرفق واللين مصداقاً لقوله تعالى: (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)، وقوله تعالى: (وجادلهم بالتي هي أحسن).
السيدات والسادة..
من حقنا أن نتطلع إلى عالم عربي مغاير في العام 2020، ومن واجبنا أن نعمل ونتحرك بأسرع من السرعة نفسها، نحن مسؤولون عن مصائرنا، وبيدنا لا بيد غيرنا يتحقق التغيير والإصلاح.
أما قوى المجتمع الدولي التي تضع منطقتنا في عين العاصفة، وتطلق مشاريع التغيير والإصلاح مشروعاً تلو الآخر، فلها منا الشكر على هذا الاهتمام، نحن فعلاً بحاجة إلى مساعدتها، وهي قادرة على المساعدة، لكن الإصلاح لن يتحقق بالمشاريع الأجنبية والقوالب الجاهزة، ولا تساعد على تحقيقه جنازير الدبابات وهدير المدافع وإدارة الأزمات بدل العمل على حلها.
فالأمن والاستقرار قوتان دافعتان للإصلاح، وهما مسؤولية مشتركة بين دول المنطقة والقوى الدولية، والواقع يؤكد أن مسؤولية هذه القوى أكبر، ولا شك أن المجتمع الدولي يعرف متطلبات الأمن والاستقرار، لكنه لا يفعل ما يكفي لتحقيقها، الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط يتطلب حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية على أسس الشرعية الدولية، وحلاً عاجلاً للمسألة العراقية في إطار يعيد العراق لأهله ويحافظ على وحدته ويرد له سيادته واستقلاله، ويتطلب أيضاً الامتناع عن استخدام القوة لحل النزاعات، وإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل.
السيدات والسادة..
يعيش عالمنا العربي وسط أزمات ومشكلات وقلاقل منذ قرن تقريباً، وقد اعتاد الكثيرون منا على تحميل الأزمات والمؤثرات الأجنبية مسئولية فشل التنمية، وقد جاء الوقت لنبذ هذه العادة، فالأزمات قد تبطىء التنمية وقد تؤجل بعض البرامج، لكنها أيضاً يمكن أن تكون حافزاً إضافياً للنجاح وتحقيق الأهداف.
أنا لا أفهم لماذا تؤجل أزمة مهما بلغت شدتها إصلاحاً اقتصادياً أو إدارياً أو تشريعياً أو خطة لمحو الأمية، ما علاقة المؤثرات الأجنبية في استمرار العمل بتشريعات من العصر العثماني؟ وما دخلها في تسلط دوائر الحكومة على المراجعين؟ وما دخلها في انتشار الفساد أو ظهور الشللية ومراكز القوى؟
في العام 2020 سيقترب عدد العرب من 400 مليون نسمة، وسيحتاج العالم العربي إلى عشرات ملايين الوظائف الجديدة، ومئات مليارات الدولارات للصرف على البنى التحتية، وسيحتاج إلى جهود جبارة للقضاء على الأمية وتطوير التعليم وتقليص الفجوة المعرفية مع العالم، وليس بالإمكان توفير هذه الاحتياجات بالمفاهيم والأساليب التي قادت العالم العربي إلى وضعه الراهن.
أقول للحكومات تفرغي لأعمالك، وقومي بواجباتك في التشريع والتنظيم والرقابة، ووفري بيئة العمل للقطاع الخاص، واحميه من مخالب مراكز القوى وفارضي الإتاوات، وأقول لإخواني المسؤولين العرب، إن لم تبادروا إلى إصلاحات جذرية تعيد الاحترام للعمل العام، وترسي مبادىء الشفافية والعدالة والمساءلة ستنصرف عنكم شعوبكم، وسيكون حكم التاريخ عليكم قاسياً.
في ختام كلمتي أحب أن أشير إلى أنه لدى الكثيرين انطباع مشوش عن المنتديات التي تعقد في منطقتنا، والبعض يعتبرها ساحة للتنظير والكلام الكبير والبيانات البليغة ليس إلا، باعتبار أن منطقتنا زاخرة بالأحلام والإلهام، فقيرة في العمل والإنجاز، وفي هذا الأمر رسالة لنا جميعاً، وهي أن نتوقف عن الحديث حول الأحلام وما يجب، وما لا يجب، وأن نبدأ في الحديث عن الإجراءات والميزانيات والمشاريع ومواعيد الإنجاز وتفاصيل التسليم، وهذا ما أتوقعه من المنتدى، فرسالته هي توفير منبر جاد للعالم العربي وهدفه وضع استراتيجيات طويلة المدى وإطلاق شراكات عمل، ووضع آليات جديدة تفضي إلى التزامات حقيقية.
نريد أن نسير بثقة إلى العام 2020، وأنتم قادرون على بناء هذه الثقة، أرجو لكم التوفيق.