
ألقى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي"رعاه الله"، كلمة في افتتاحه أعمال المؤتمر الثاني للشركات الاستثمارية والمستثمرين العالميين، أكد فيها وحدة الإمارات في التعامل مع الأزمة الاقتصادية، وفيما يلي نص الكلمة:
بسم الله الرحمن الرحيم..
بداية، أود أن أعرب عن شكري وامتناني لدعوتي للحديث ضمن هذا اللقاء المهم.
كما أود أن أرحب بكم جميعاً في بلدكم الثاني الإمارات، وبيتكم الثاني دبي، التي آمل لكم فيها طيب الإقامة.
يعرف معظمكم شدة حرصي على الوقت، لذا سأدخل مباشرة في صلب الموضوع، والذي أعتقد أنه يعنيكم كثيراً بشكل أو بآخر، وهو اقتصاد دبي، ولن أضيع وقتكم في سرد تفاصيل الأزمة الاقتصادية العالمية، لأنكم أهل الخبرة والاختصاص في هذا الشأن.
ولكنني اليوم أريد أن أشارككم جانباً من أفكاري المتعلقة بالأزمة التي انعكست آثارها على شرق العالم وغربه، وشكلت حدثاً اقتصادياً كونياً، وتأثرت بها اقتصادات العالم الكبرى قبل أن تمس أسواقه الناشئة.
فقد خلفت تداعياتها واقعاً اقتصادياً على مستوى العالم، وكانت تأثيراتها على الاقتصاديات المنفتحة أكثر وطأة من نظيرتها المنغلقة والأقل ارتباطاً وتفاعلاً مع الأسواق الدولية.
لذا كان على دبي اتخاذ التدابير اللازمة للتعاطي مع النتائج الناجمة عن تقلص الاقتصاد العالمي وانكماش الأسواق، ولم تكن مبادرات دبي في هذا الاتجاه بمعزل عن الخطوات الجادة والمهمة التي قامت بها الدولة في هذا الخصوص، فكما تعلمون بأن دبي جزء لا يتجزأ من اتحاد دولة الإمارات.
لكنني، لن أتطرق إلى سرد المبادرات التي اتخذناها للتصدي لانعكاسات الأزمة، فمعظمكم على معرفة بما اتخذناه من خطوات في هذا الصدد، سواءً على المستوى الاتحادي أو المحلي.
وأفضل اليوم أن أتناول في حديثي معكم الثوابت والحقائق المهمة، والتي أوجزها في عبارة بسيطة، مفادها: إن الأزمة العالمية على الرغم من تأثيراتها الوقتية لن تثني دبي عن طموحها التنموي، ولن تزيحها عن موقعها الريادي، ولن تبعدها عن دورها الفاعل في ساحة الاقتصاد العالمي، ولن تفتُ من عزم أبنائها وتصميمهم على مواصلة مسيرة التطوير.
ومع أنني اتفق مع من يقول بأن الكلام سهل والمحك الحقيقي في التطبيق، فإن ثقتي كاملة في قدرتنا على الفعل، والدليل على ذلك الانجازات التي تقف واضحة للعيان على أرض دبي، فهي خير برهان على واقعية تلك القناعة التي لم تأت من فراغ أو تستمد وجودها من آمال براقة وفي ذات الوقت خاوية.
إننا في دولة الإمارات بقيادة أخي صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد، رئيس الدولة، نواصل ما بدأه المغفور لهما بإذن الله؛ الشيخ زايد بن سلطان ووالدنا الشيخ راشد بن سعيد، منذ بداية العقد السابع من القرن الماضي عندما دشنا مرحلة وضع اللبنات الأولى للاتحاد، فكانت الانطلاقة المباركة.
وعندما قرر والدي المضي قدماً في مشروع توسعة الخور، وأمر ببناء مطار دبي الدولي، ووجه بإقامة ميناء جبل علي ضمن سلسلة من المشروعات العملاقة، لم يُخف من حوله شكوكهم في جدواها الاقتصادية آنذاك.
ولكن هذه هي دبي، وهؤلاء هم أبناؤها، الذين من شيمتهم التطلع للمستقبل بعين ثاقبة وخطوات ثابتة، ومنهجهم العمل، ونبراسهم الإيمان بالله وبتوفيقه لهم وبقدرتهم الذاتية على قهر التحديات واقتحام مجالات تبدو للوهلة الأولى ضرباً من الخيال البعيد.
واليوم نحصد ما غرسه الآباء، فاقتصادنا متنوع ولا يعتمد فقط على الاستثمارات الأجنبية، التي نرحب بها على أرض دبي، حيث نفخر بمجموعة من الشركات وطنية الانتماء وعالمية الانتشار التي تتمتع بالقدرة العالية والسمعة الدولية، مثل طيران الإمارات وموانىء دبي العالمية ومجموعة جميرا، وغيرها من الشركات التي تمثل الدروع الحقيقية لمقدرتنا الاقتصادية في دبي.
هذه الانجازات، وغيرها، هي الدليل العملي والواقعي الذي نثبت به من خلاله قدرتنا على تخطي الأزمات، وهي بطاقتنا الذهبية لمواصلة مرحلة جديدة من النمو والتطور.
وقد أدركنا منذ وقت مبكر أهمية الاستثمار في ترسيخ قواعد بنية أساسية تتمتع بأعلى درجات الاعتمادية، وتواكب أحدث ما وصل إليه العلم في مختلف المجالات.
إن خيارنا الاستراتيجي هو أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، مع حرصنا على تطوير نموذج تنموي يضمن لنا القدرة على مواجهة التحديات بأسلوب مرن وفعال، يضع الإنسان في مقدمة أولوياته.
وربما يرى البعض أنه كان من الممكن أن تتحرك دبي بسرعة أكبر في اتجاه معالجة آثار الأزمة العالمية، إلا أننا آثرنا التريث على الاندفاع لحرصنا على ضمان تعزيز إمكانات مؤسسات الأعمال الرئيسية في دبي لإعادة هيكلتها بنحو يمنحها القوة والقدرة للتأقلم مع الواقع الجديد للاقتصاد، الذي خرج من أتون الأزمة، ليفرض على الاقتصاديات الكبرى معدلات نمو أبطأ، ويفتح آفاقاً واعدة أمام أسواق ناشئة كالهند والصين ضمن مرحلة ستتنامى فيها أدوار وأهمية تلك الأسواق.
إنني واثق بأن الأسوأ قد مرّ، وأن أقتم غيوم الأزمة الاقتصادية قد انجلى، وأن دبي أصبحت الآن مع بزوغ مؤشرات تعافي الاقتصاد العالمي في وضع يسمح لها باستثمار قواها الكامنة والمتأصلة في ذاتها، لخوض جولات جديدة في سباقها نحو التميّز، ذلك السباق الذي وقف العالم بأسره شاهداً عليه ومشاهداً لحلقاته طوال العقود الثلاثة الماضية، مبهوراً بقدرتنا على الانجاز والتميّز.
إن ثقتي الكبيرة في قدرة دبي على تجاوز الأزمة ليست من فراغ، ولكنها تستند إلى حقائق لواقع ملموس، أود أن أشارككم بعض ملامحه، والتي ربما تعمد البعض تناسيها وإغفالها عندما أطلق أحكامه المسبقة على دبي وإمكانات تخطيها لموقف فرضته ظروف دولية لم تكن دبي استثناءً منها.
إنها سلسلة من عناصر اجتمعت لدبي لتجعل منا - شاء البعض أم أبى - الخيار الأمثل لمجتمع الاستثمار العالمي الساعي إلى إقامة أعمال يمكن من خلالها اقتحام أسواق منطقة مترامية الأطراف يقدر تعداد سكانها بأكثر من ملياري نسمة، وهي سوق ناشئة وحبلى بالفرص التي باتت الأسواق الكبرى تفتقر إليها بسبب بلوغها مراحل متقدمة من التشبع.
وأريد أن أؤكد حقائق مهمة، ومنها:
- إن الأزمة العالمية لن تزحزح دبي عن موقعها الجغرافي المتميّز في قلب العالم كحلقة وصل لا غنى عنها بين شرقه وغربه.
- توافر البنية الأساسية وشبكات الربط الجوية والبحرية عالية الأداء، التي تدعم قدرتنا على النفاذ إلى أسواق المنطقة، وتحقق الارتباط الفعال مع أطرافها، حيث أعدت دبي عدتها لذلك، فميناء جبل علي هو السادس بين أكبر موانئ العالم والأكبر في منطقة الشرق الأوسط، أما مطار دبي الدولي فهو يأتي أيضاً سادساً بين أكبر مطارات العالم من ناحية المسافرين، حيث يخدم (مائة وخمساً وعشرين) شركة طيران تسيّر رحلات إلى أكثر من (مائتين وعشر) وجهات سفر في القارات الست.
- وعند اكتمال العمل في مطار آل مكتوم الدولي، سيحتل المرتبة الأولى بين أكبر مطارات العالم، بطاقة استيعابية تصل إلى (مائة وستين مليون) مسافر و(اثني عشر مليون) طن من البضائع سنويا، مع كونه مجهزاً لاستقبال طائرات السفر والشحن العملاقة.
- ومع اكتمال الموقع الجغرافي والبنية التحتية اللوجستية، كان حرصنا على تطوير البنية الأساسية التشريعية، التي تعزز واحداً من قطاعاتنا الأربعة الرئيسية، وهو قطاع الخدمات المالية.
- فقد شهد العالم لنجاح دبي كسوق مالية متكاملة الأركان تتوسط الأسواق العالمية الكبرى من نيويورك ولندن غرباً إلى هونغ كونغ وطوكيو شرقاً، لتمثل حلقة وصل مركزية تستند إلى هياكل تنظيمية مهمة، من أبرزها مركز دبي المالي الذي نجح في كسب احترام وتقدير المجتمع المالي الدولي بنظامه القانوني العالمي.
- لقد نجحنا في دبي، وتمكنّا من بناء بيئة أعمال صديقة تلبي للمستثمر تطلعاته، سواءً من تسهيلات متميزة مثل الإعفاء الكامل من ضرائب الدخل والشركات، أو عبر توفير بنية تكنولوجية ذات درجات كفاءة عالية أو تجهيزات عقارية أو خدمات حرفية ومهنية أو مرافق خدمية تلبي احتياجاته هو وأفراد أسرته كافة.
- وهناك مدن دبي للانترنت والإعلام والاستوديوهات، وقرية المعرفة والمدينة الأكاديمية ومجمع دبي للتقنيات الحيوية ومنطقة دبي للتعهيد، وغيرها من المشروعات النوعية، التي قصدنا بها إقامة قواعد ومنصات انطلاق لاقتصاد المعرفة على أرض دبي، وهي انجازات نفخر بتحقيقها، ولكنها ليست كل شئ فالمزيد آت.
ولن استطرد في سرد المفردات التي ترسخ من يقيننا من قدرة دبي على نفض غبار هذه الأزمة العابرة، ولكنني أردت فقط أن أنوه بأن من يعتقد أن اقتصاد دبي وقصة نجاحها التنموية كانت قاطرتنا الوحيدة مشاريع التنمية العقارية هو شخص جافاه الصواب، ولا أحد ينكر وجود طفرة عقارية كبيرة خلال السنوات القليلة الماضية، ولكن من الإجحاف اختصار تجربة دبي في تلك المشاريع فحسب مهما كانت ضخامتها، فقصة نجاح دبي التنموية أوسع نطاقاً وأكثر عمقاً وتنوعاً من الناحية الإستراتيجية.
كما أن دبي ليست وحدها، فهي جزء لا يتجزأ من دولة الإمارات، هذا الاتحاد الصلد والقوي، الذي يشد بعضه بعضاً كالبنيان المرصوص، ومن هنا فإن نجاح دبي هو امتداد لنجاح أبوظبي والعكس صحيح، والأمر ذاته بالنسبة لبقية الإمارات السبع، فالشارقة وعجمان وأم القيوين ورأس الخيمة والفجيرة، التي يشكل اتحادها قوة لا تقهر وحصناً منيعاً، لا يمكن أن تفتُ التحديات من عضده. إن هذا الاتحاد هو مصدر ثقتنا وقوتنا.
الحضور الكريم..
إن تفاؤلي بقرب انتهاء الأزمة وثقتي في قدرة دبي على مواصلة معدلات نموها القوية في اقرب وقت يستندان أيضاً إلى مرجعية ايديولوجية وميراث إنساني يرتبط بجذوري البدوية، التي افخر بانتمائي وشعبي إليها، فالبدو شعب قوي الشكيمة، وصلب العزيمة، لا يلين في مواجهة الأزمات، ولا يعرف إلا التصميم على الهدف والسعي وراء تحقيقه.
إن من يعرفونني عن قرب يثقون في تصريحاتي وبيقيني في أن الشريحة الثانية من برنامج السندات، الذي أطلقته دبي، سيلقى إقبالاً واسعاً، وسيحقق نسب اكتتاب عالية، وأنه سيتم توجيهه بشكل مباشر نحو تسوية التزاماتها على مدار السنوات القليلة المقبلة.
إن رحلتنا التنموية كانت وستظل سباقاً نحو التميّز؛ سباق لترسيخ موقع دبي كمركز رائد ومتطور للأعمال ولتأكيد استحقاقها لصفة العاصمة المالية والتجارية لمنطقة الشرق الأوسط من دون منازع.
السيدات والسادة..
على مدار السنوات العشرين الماضية حافظت دبي على معدلات نمو صحية، وقد استفاد بشكل كبير الكثيرون كنتيجة مباشرة لهذا النمو، إلا أن التباطؤ الاقتصادي منحنا مهلةً للتروي والتفكير والتأمل فيما حولنا، وربما كانت تلك المهلة ضرورية لالتقاط الأنفاس والعمل على تجديد قدراتنا التنافسية قبيل مواصلة السباق، ولا ننكر أن الأزمة العالمية قد أقحمتنا في حالة من الصمت مخلفةً وراءها فراغاً معلوماتياً وجدت فيه الشائعات بيئة خصبة للرواج والانتشار، ويجب علينا ألا نسمح بتكرار ذلك في المستقبل، فالوضوح والاتصال المفتوح والفعال عنصران أساسيان في بنيان الأمم الناضجة والمتحضرة.
ولكن يجب ألا يغيب عن أذهاننا أيضاً أن الانكماش الاقتصادي في طريقه إلى الزوال، شأنه في ذلك شأن حالات الانكماش التي اعترت العالم في الماضي.
فقد استمعت بعناية واهتمام على مدار السنة الماضية إلى أراء العديد من قادة الأعمال في دبي ودولة الإمارات وآسيا وأوروبا والولايات المتحدة، ومديرين تنفيذيين ينتمون إلى قطاعات عدة، مثل الطيران والفنادق وأصحاب رؤوس أموال ومستثمرين، وأنصت باهتمام إلى آمالهم وتطلعاتهم، وأؤكد لكل هؤلاء من على هذا المنبر أننا سنواصل الاستثمار في دعم بنيتنا الأساسية في شتى المجالات، بما يخدم المصالح الداخلية، ويضمن النجاح لشركائنا من المستثمرين في جميع القطاعات.
الحضور الأفاضل..
كان احتفالنا بمترو دبي مؤخراً برهاناً عملياً لإصرارنا الأكيد على تأصيل مكانة دبي كمدينة عالمية تملك مقومات التميّز على المديين القريب والبعيد.
وبالمناسبة، هل استمتعتم بتجربة ركوب مترو بدي في دبي؟ إن لم تكونوا فعلتم فأنصحكم بركوبه، فهو أول مترو بدون سائق في المنطقة، بل في واقع الأمر أن أراكم بصحبتنا أيضاً على متن المرحلة المقبلة من رحلتنا التنموية، التي سننطلق فيها بأشرعة تملؤها رياح العزيمة والتفاؤل؛ رحلة لقهر التحديات، لنثبت للجميع بأن الإصرار والرؤية التي تستشرف المستقبل هما المدد الحقيقي لكل مجتهد في سعيه نحو التميز والنجاح.
شكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله.