
أكد الفريق أول سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي وزير الدفاع، أن الإعلام بات من حقائق العصر ودخل في نسيج الحياة وفي قلب الحراك الاقتصادي والسياسي والاجتماعي على مستوى الدول وعلى مستوى العالم، وهو ما حفز الإمارات على إعطائه الأهمية التي يستحقها. جاء ذلك في كلمة لسموه في افتتاح المؤتمر العاشر لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، الذي بدأ اليوم في أبوظبي، في ما يلي نصها:
أنا سعيد بلقاء هذه النخبة الطيبة من الإعلاميين العرب، فأهلاً وسهلاً بكم في بلدكم الإمارات، وبين أهلكم الذين لا يسعدهم شيء أكثر من لقاء إخوانهم والتباحث معهم في سبل تحرر العالم العربي من القيود التي تحد من أشواقه للتقدم والمشاركة الفعالة في مسيرة الحضارة الإنسانية.
طبعاً هذا ليس أول مؤتمر يتناول التحديات التي يواجهها العالم العربي، وبضمنها التحديات الإعلامية، ونحن بحاجة إلى المزيد من المؤتمرات لتقييم الواقع وتبادل المعرفة، فالإعلام بات من حقائق عصرنا الكبرى، ودخل في نسيج الحياة، وفي قلب الحراك الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، على مستوى الدول، وعلى مستوى العالم، وهذا ما حفزنا في الإمارات لإعطاء الإعلام الأهمية التي يستحق، كما في مؤتمركم هذا والمؤتمرات المماثلة، وكما في إنشاء مدينة دبي للإعلام وجائزة الصحافة العربية ومنتدى الإعلام العربي، وكما في تطور أداء وسائل الإعلام في الإمارات، واتساع مساحة الحرية المتاحة لها.
نعم نحتاج إلى المزيد من المؤتمرات، لكننا أيضاً نحتاج إلى المزيد من العمل، وإلى المزيد من الجهد في إعداد الكوادر وتطوير الأداء، وإلى المزيد من الجدية والجرأة في الطرح والتناول.
وقبل أن أعرض على حضراتكم رؤيتي للتحديات التي يواجهها الإعلام العربي في عصر المعلومات، أحب أن أشير إلى أنني من الذين لا يُحمِّلون الإعلام أكثر من طاقته، ولا يطالبونه بما لا يستطيعه. فالإعلام لا يعمل في الفراغ، ولا يتحرك بمعزل عن القوى الفاعلة في الدولة والمجتمع، إنه جزء من كلٍ متكامل، لكنه الجزء عظيم التأثير في الأجزاء الأخرى، وإذا كـان لنا أن نشبهه بسفينـة، فالإعلام موجود في غرفة القيادة، ومشارك في تحديد اتجاه السفينة، وفي سرعتها، وفي الوصول بها إلى محطتها بسلام، وفي الوقت المناسب، وسواء كان البحر هادئاً أو هائجاً.
والواقع أن الإعلام العربي مارس هذه الشراكة منذ البدايات الأولى لمسيرة النهضة والتحديث، وكان الإعلاميون دائماً بين طلائع التنوير والتقدم، وكانوا البشير والنذير، وبينهم فرسان لا يخافون في قولة الحق لومة لائم، ولا سلطان عليهم إلا الضمير، ويتقدم عندهم العام على الَخاص، والجماعة على الفرد، والوطن على الجميع.
لكن هذا الدور الرائد تعرض لانكسار شديد عندما ابتُلي عالمنا العربي بالفكر الشمولي والحكم الشمولي، الذي ما أن اكتشف سحر الإعلام حتى سيطر عليه وحَرَّفَهُ عن وظائفه، وحوَّله من خدمة الوطن إلى خدمة المتسلطين عليه، ومن كشف الأخطاء إلى التستر عليها، ومن منبر للحوار بين قوى المجتمع الحية، إلى سلاح للتشهير بالخصوم والرأي الآخر.
وبعد أن تكاثرت الهزائم، وألقى الفشل التنموي بأثقاله على المجتمع، وصار التمويه على الواقع مستحيلاً، ألقى الفاشلون بالمسؤولية على غيرهم... مرةً على مؤامرات داخلية، وأخرى على مؤامرات خارجية، وسارع إعلامهم إلى تبرير الفشل بدل تفسيره، وتقديم الفاشل في صورة الضحية، ليس فقط لإعفائه من تحمل التبعات، بل أيضاً ليحظى بالعطف والتقدير بدل المساءلة والحساب.
من حسن الحظ أن هذه الحقبة من حياتنا العربية قد انتهت أو شارفت على الانتهاء، ولم يعد ممكناً تسويق الأوهام أو تبرير الفشل بأسباب ملفقة، أو تحويل الهزائم إلى انتصارات. وشكراً للتكنولوجيا التي فتحت فضاء المعلومات على اتساعه أمام الناس، فـوضعت العالم العربي بدوله وحكوماته ومجتمعاته أمام حقائق الواقع وتحديات العصر الجديد.
أما بالنسبة للإعلام، فكان عليه أن يواجه أولاً تحدي المصداقية، حيث اكتشف الناس أن إعلامهم الوطني يقدم لهم صوراً عن أنفسهم وعن بلدانهم وعن العالم الذي يعيشون فيه غير الصور الحقيقية.
وكان على الإعلام أن يواجه أيضاً تحدي المنافسة، ولكن كيف ينافس وهو مكبل بأنماط العمل التي اعتاد عليها لعقود طويلة؟ وكيف ينهض ليواجه هذا الغزو الفضائي وهو مقيد بقوانين مهمتها الأولى التحكم في المعلومات ومنع الرأي الآخر؟
واقع الحال أن استجابة الإعلام لهذا التحدي كانـت بطيئة جداً ، وظلت وسائل الإعلام الأجنبية مصادر رئيسية للأخبار والمعلومات. فقد كان هناك فراغ، والفراغ عادةً لا ينتظر، بل يفسح المجال لمن يبادر ويتقدم... كان الفراغ ظاهراً للجميع، وجرت محاولات لملئه، لكنها وقفت عند حدود تحويل البث الأرضي إلى بث فضائي، وإعادة إنتاج القديم بأشكال جديدة، إلى أن تقدم بعض الأشقاء ببعض القنوات الجديدة التي مهما كان الرأي حولها، فقد جاءت مثل حجر كبير أُلقي في مياه الإعلام الراكدة، فتحركت بعشرات المشاريع الإعلامية وعشرات الفضائيات الجديدة، وبفكر يحاول الإجابة عن أسئلة المصداقية والمنافسة.
ومن طبائع الأشياء أن الانتقال من حال إلى حال يصطحب معه الأخطاء والتجاوزات، ويولد احتكاكات كثيرة بين القديم والجديد، وبين المألوف وغير المألوف، ويحتمل الجدل الصاخب حول أساليب العمل وحدود التناول. إنه في الواقع جدل حول مفاهيم أساسية في الحياة، تتعلق بالتنمية والتحديث والإصلاح وإدارة الدولة وحق الناس في التعبير عن رأيهم والدفاع عن مصالحهم. وهذا الجدل قابل دائماً للاشتعال بفعل تأثيرات القضايا الساخنة، وتحديداً فلسطين والعراق ومكافحة الإرهاب، وارتباط ذلك كله بسياسات دولية عموماً وأمريكية خصوصاً، لديها مشاريع معلنة تجاه المنطقة، ولديها حضور كثيف في كل شؤونها.
الأخوات والإخوة..
لقد أردت بهذا التمهيد الإشارة إلى الإرث الثقيل الذي تحملونه على كاهلكم، وإلى حيوية دوركم في هذه المرحلة الحساسة التي يعيشها عالمنا العربي، حيث تكثر الأسئلة، وتختلط الأولويات، وتزداد الحيرة، وتكتنف الشكوك الكثير من الأفكار والمشاريع وربما المستقبل.
أعرف أن مهمتكم ليست سهلة، لأن القضايا التي تتعاملون معها ليست سهلة، وسأكتفي بالتوقف عند القضية الأكثر أهميةً في العالم العربي اليوم، وهي قضية التغيير والإصلاح، أنتم في وسط هذه القضية، لأن الإعلام مثله مثل أي نشاط آخر، يحتاج إلى إصلاح وتغيير، وفي الوقت نفسه، هو لاعب رئيسي في قضية الإصلاح والتغيير.
وفي هذه القضية نقطة حرجة وأخرى ساخنة، أما النقطة الحرجة فتأتي من المفارقة الكامنة بين ضرورة الإصلاح كمطلب وطني ، وبين إقحام المشاريع الأجنبية على هذا المطلب، مما يوقع بدعاة الإصلاح بعض الحرج، ويفرض عليهم جهداً إضافياً لتأكيد أصالة مفاهيمهم الإصلاحية، وحمايتها من شبهة التواطؤ مع المشاريع الأجنبية التي يرفضها الناس تلقائياً مهما كان هدفها وأياً كان مصدرها.
أما النقطة الساخنة فتنبع من العلاقة الملتبسة بين الإصلاح والهوية الوطنية بعناصرها المتغيرة ومكوناتها الثابتة، وخصوصاً العروبة والإسلام.
فأي إصلاح أو أي تغيير لا بد وأن يتوسل منجزات العصر، وأن يستفيد من نماذجه الناجحة، وأن يتفاعل مع الأساليب التي قادت إلى هذا النجاح، وحيث إن منجزات عصرنا تنتسب لغيرنا، فإن تأثيرات الإصلاح على عناصر الهوية الوطنية تطرح نفسها بقوة، ويجرى استغلالها لمقاومة الإصلاح والتغيير.
تعلمون أن هذه المسألة لم تحسم برغم أنها مطروحة منذ حملة نابليون على مصر سنة 1798، والتي شكلت بداية احتكاك الواقع العربي والإسلامي مع الحضارة الغربية المعاصرة، وكانت تطفو على السـطح مع كل مفصل مهم في حياتنا العربية وعالمنا الإسلامي، ثم تعود وتختفي ويتم تجاهلها إلا من نخب فكرية معزولة عن حركة المجتمع، بينما هي تتفاعل في السراديب والدهاليز، ويحدث حولها الاصطفاف الذي انتهى بعضه عنفاً وبعضه إرهاباً وبعضه غربةً واغتراباً وبعضه عزلة عن المجتمع والدنيا، أما عند غالبية الناس فقد انتهى هذا التفاعل، حيرة ومعاناة نفسية وأسئلة عن سبل التوفيق بين الأصالة والحداثة، وبين التقليد والتجديد.
في عصر المعلومات، لم يعد ممكناً لهذه القضية أن تتوارى تحت السطـح، فهي كامنة في قلب كثير من الصراعات والتوترات، وفي قلب جهود التنمية والتحديث والتغيير، مما يفرض على القادة والمفكرين والإعلاميين التعاطي معها بأصالة وعقلانية وشجاعة، من أجل تخليص عناصرها من الشوائب والانحرافات الفكرية، ليكون بالإمكان بلورة جوهرها الحافز على الإصلاح والتغيير.
وأنتم أهل الإعلام تتحملون مسؤولية كبيرة في هذه القضية، سواء بعدم إهمالها أو بترشيد الحوار حولها، لكن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق القيادات العربية، من خلال مسؤوليتها عن إشاعة الحرية الفكرية، وحماية المفكرين، وقبول الرأي الآخر، ورعاية المجتهدين والمبادرين والمبدعين.
الأخوات والإخوة..
يتفرع من موضوع الهوية عشرات الموضوعات المتصلة بدوركم وعملكم، وحسبي من هذه الموضوعات، رسالتكم إلى الشباب.
تعلمون أن المجتمعات العربية مجتمعات شابة، أما مجتمعاتنا الخليجية فهي أكثر شباباً. نحو نصف سكان العالم العربي تحت سن العشرين، هؤلاء هم المستقبل. كما يكونون يكون المستقبل. فما هي رسائل الإعلام الموجهة إليهم ؟ كيف يحدد الإعلام أولوياته، وكيف يختار برامجه؟ وكيف يقيس مردودها على القيم والسلوك؟ وهل يستمع إلى صوت الشباب؟ وهـل يعرف رأيهم؟ هل لديه رؤية وخطط عمل، أم أن الأمور متروكة على عاتق فضائيات الترفيه ؟!
هذه الأسئلة تطال أيضاً تعاطي الإعلام مع المرأة وقضاياها، ومع الطفل واحتياجاته، ومع التعليم وأساليبه ومناهجه.
هل تملكون إجابات لهذه الأسئلة ؟!
ربما، لكن الإجابات الشافية تحتاج إلى خبرات ودراسات وخطط، بدون ذلك تكون حركة الإعلام خبطاً عشوائياً، ويسيطر على أدائه الارتجال والتقليد الأعمى، ويتحول إلى بيئة طاردة للكفاءات، وبالتالي يفقد الإعلام قدرته على المنافسة والوصول لضمائر الناس وعقولهم، وتكون النتيجة فشلاً تاماً في مواجهة تحديات عصر المعلومات وكل عصر آخر.
الأخوات والإخوة..
تلاحظون أنني تحدثت عن الإعلام العربي عموماً، ولم أخص الإعلام الخليجي كما اقترح عليّ منظمو المؤتمر. وقد قصدت ذلك، ففي عصر المعلومات، يصعب وضع خط فاصل بين الإعلام الخليجي والإعلام العربي، بل إن الخط بين الإعلام العربي والإعلام الأجنبي يكاد يتلاشى، كما أن الإعلام الخليجي اليوم هو الأكثر حضوراً وتأثيراً في العالم العربي، فأهم قنوات الأخبار على المستوى العربي خليجية، وأكثر القنوات العامة استقطاباً للمشاهدين خليجية أيضاً، وأهم الصحف والمجلات الموجهة للنطاق العربي خليجية، أما الترفيه الفضائي المفتوح والمدفوع فهو خليجي الملكية، وتستقطب وسائل الإعلام الخليجية أهم المفكرين والكتاب والإعلاميين العرب، وزبدة الإنتاج الفكري والفني العربي.
هذه الحال تلقي على الإعلام الخليجي مسؤوليات مضاعفة، فالنجاحات التي حققها خلال السنوات القليلة الماضية، مكنته من الحضور والمنافسة بقوة في الفضاء، وجعلت صوته مسموعاً في محافل دولية عديدة، وهناك من يترصده بسوء نية ويستخدم بعض ما يُنشَر ويُبَث للنيل من دول الخليج وقيم وتقاليد أهل الخليج.
بإمكان الإعلام أن يوظف هذه النجاحات في تصحيح الصورة المشوهة عن المنطقة والعرب والمسلمين من خلال تفاعله مع وسائل الإعلام العالمية، وفتح قنوات الحوار مع المؤثرين في هذا العالم، من مفكرين وسياسيين واقتصاديين ومراكز دراسات ومنظمات أهلية.
ومن جهة ثانية، أرى دوراً عربياً لإعلامنا الخليجي يستطيع من خلاله تقديم ما يمكن أن أسميه "الرسالة الخليجية"... رسالة تنوير تحث على التنمية وبناء الإنسان والاعتدال والحوار والانفتاح والتحديث الاقتصادي والسياسي والإداري.
وبطبيعة الحال، لن تستقيم هذه الرسالة من دون انفتاح حقيقي على الواقع الخليجي بكل ما فيه من إنجازات وطموحات ومشاكل ونواقص، فإذا لم يبادر إعلامنا للتعاطي مع قضاياه المحلية بجرأة ومسؤولية وعقلانية، سيبادر غيره إلى ذلك، ولكن من زاوية رؤيته ومصالحه.
إعلامنا الخليجي يحتاج إلى مبادرات باتجاه الداخل الخليجي، يجب ألا نخجل من المشاكل أو نستحي من النواقص، فالكمال لله، وتجربتنا التنموية والإدارية حديثة وعمرها قصير قياساً بالدول الأخرى، ونفخر بما أنجزناه، ونعرف أن علينا الكثير لنفعله. المهم هو أن نسعى لعلاج المشاكل، وأن نعمل لسد النواقص، ونتطلع دائماً إلى الأمام.
الأخوات والإخوة..
لقد لامست في حديثي بعض التحديات، وهناك تحديات أخرى أعلم أنها تشغل بالكم، ومن بينها سياسات التأهيل والتدريب، وأوضاع الإعلاميين الأمنية والمعيشية، واحتياجات المشاريع الإعلامية لموارد كبيرة.
أنا بطبعي متفائل بالمستقبل، وحين أرى هذه الوجوه الطيبة يزداد تفاؤلي، ومع مضي عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي في عالمنا العربي إلى الأمام، ستتحسن الأحوال وتكسب الشفافية أرضاً جديدة، ويتضاعف النمو ويتسع حجم السوق وتزدهر صناعة الإعلان ويرتفع الطلب على الإعلام، ولا يبقى في الأرض إلا ما ينفع الناس.
ثقتي كبيرة بكم وبالإعلاميين العرب، ولا شك عندي بأنكم أمناء على الرسالة التي تحملون، ومتحمسون لأداء دوركم في التغيير والإصلاح ومواجهة التحديات، وستجدون في الإمارات دائماً أخوة لكم هاجسهم خير العرب ونهوضهم وتقدمهم.
أشكركم، وأرجو لكم ولمركز الإمارات التوفيق والنجاح، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.